في
عام 86 هـ وفي زمن الوليد بن عبد الملك الأموي تولى موسى بن نصير المغرب ،
فأخضع البربر ، ونشر الأمن في هذه الربوع ، واستطاع أن يفتح طنجة فترك بها
حامية يقودها مولاه طارق بن زياد ، وعهد إليه بالعمل على نشر الإسلام في
المنطقة ، وعسكر طارق بمن معه من المسلمين على سواحل بحر الزقاق ، وبدأت
أنظارهم تتجه نحو أسبانيا .
وعاد موسى إلى القيروان ، وعلم طارق أن ميناء سبتة على مقربة منه فبدأ
يتحرك نحوه ، وكان حاكم سبتة يليان قد تحرر من سلطان الدولة البيزنطية ،
وأصبح كالحاكم المستقل في سبتة وماحولها ، واحتك يليان بالمسلمين وأحس
بقوتهم وضغطهم عليه ، فعمل على كسب ود طارق بن زياد ، وكان طارق يتطلع
لفتح أسبانيا ، فراسل يليان ولاطفه وتهاديا حتى يستفيد منه .
وأما الأندلس ( أسبانيا ) فقد حكمها القوط منذ عام 507 م ، غير أن أمرهم
بدأ يضعف ، وقسمت أسبانيا إلى دوقيات ، يحكم كل منها دوق ، يرجـع في
سلطنته إلى الملك في طليطلة ، وقسم المجتمع إلى طبقات : أعلاها طبقة
الأشراف أصحاب الأموال والمناصب وحكام الولايات والمدن والإقطاعيون ، ثم
طبقة رجال الدين الذين ملكوا الضياع وعاملوا عبيدهم بالعسف ، ثم طبقة
المستخدمين وهم حاشية الملك وموظفو الدولة ، ثم الطبقة الوسـطى وهم الزراع
والتجار والحرفيين وقد أثقلوا بالضرائب ، وأخيراً الطبقة الدنيا وهم
الفلاحين والمحاربين والعاملين في المنازل ، وبلغ البؤس بأهل أسبانيا أن
حل بهم الوباء في السنوات : 88 ، 89 ، 90 هـ حتى مات أكثر من نصـف سكانها .
وفي عام 709 م تولى العرش وتيكا الذي يسميه العرب غيطشة ، ولكنه عزل في
نهاية السنة نفسها ثم قتل ، واستلم الحكم بعده أخيلا ، وفي العام
التالي710 م وصل ردريك - ويسميه العرب لذريق – إلى الحكم بعد عزل أخيلا ،
وغرق لذريق في الشهوات حتى نفرت منه القلوب ، وانقسمت البلاد في عهده ،
فظهـر حزب قوي بزعامة أخيلا الذي حاول استرداد عرشه وحزب آخر ناصر الملك .
ولما كان يليان حليفاً لغيطشة فقد حـاول مد يد العون إلى حليفه ، ولكن
أنصار لذريق ردوه عن الأندلس إلى العدوة الإفريقية ، فتحصن في سبتة ، وأخذ
يرقب الأحداث .
وتذكر الروايات أن يليان هو الذي دعا موسى لغزو الأندلس ، وذلك أن يليان
كان قد أرسل ابنته إلى قصر لذريق لتتأدب ، وتنشأ فيه أسوة بغيرها من بنات
القوط في ذلك الزمان ، وأن لذريق بصر بالفتاة وطمع فيها ونال منها ، فكتبت
إلى أبيها بخبرها ، فدفعه ذلك إلى التفكير في الانتقام من لذريق ، فاتصل
بطارق وزين له فتح الأندلس ، وجعل نفسه وأتباعه أدلاء للمسلمين بعد أن
اطمـأن إليهم ، وزار يليان موسى بن نصـير في القيروان لإقناعـه بسهولة
الفتح ، وطبيعي أن يشك موسى في صحة المعلومات فطلب من يليان أن يقوم بغارة
سريعة ، ففعل وعاد محملاً بالغنائم .
وليس هذا هو السبب الحقيقي للفتح ، ولكنه عجل به وساعد عليه ، وإلا فأعين
طارق بن زياد على الأندلس منذ أن وصل طنجة ، ثم إن المسلمين فتحوا فرنسا
وسويسرا وصقلية وجزر المتوسط كلها دون مساعدة يليان ، كما أن المسلمين منذ
أيام عثمان بن عـفان رضي الله عنه يفكرون بفتح القسطنطينية من جهة أوروبا
بعد فتح الأندلس ، وقال عثمان حينها : ( إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل
البحر ، وأنتم إذا فتحتـم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في
الأجر آخر الزمان ) .
وكتب موسى يستأذن الخليفة بدمشق ، فجاء رد الخليفة الوليد : ( أن خضها
بالسرايا حتى تختبرها ، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال ) ، فكتب
إليه موسى : ( إنه ليس ببحر وإنما هو خليج يكاد الناظر أن يرى ماخلفه ) ،
فكتب إليه الخليفة : ( وإن كان ، فاختبره بالسرايا ) ، فأرسل موسى مولاه
طريف ، وكان في مائة فارس وأربعين راجلاً ، في مهمة استطلاعية ، وجاز
البحر في أربعة مراكب أعانهم بها يليان ، وذلك في شهر رمضان ، ونزل
المسلمون في جزيرة صغيرة على مقربة من الموضع الذي قامت فيه بلدة حملت اسم
طريف ، وخفّت قوة من أنصار يليان وأبناء غيطشة لعونهم وقامت بحراسة المعبر
حتى تم نزولهم ، ومن ذلك الموضع قام طريف وأصحابه بسلسلة من الغارات
السريعة على الساحل غنموا فيها كثيراً ، وشجع هذا موسى على عبور الأندلس .
واختار موسى للفتح طارق بن زياد ، وركب طارق السفن في سبعة آلاف من
المسلمين ، جلّهم من البربر ، وبينما هو في عرض المضيق على رأس سفينته إذ
أخذته سنة من النوم ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون
والأنصار ، قد تقلدوا السيوف ، وتنكبوا القسيّ ، فيقول له رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( يا طارق تقدم لشأنك ) ، ونظر إليه وإلى أصحابه قد
دخلوا الأندلس قدّامه ، فيهب طارق مستبشراً .
وألقت السفن مرساها قبالة الجزيرة الخضراء عند جبل سمي فيما بعد جبل طارق
، وكان لذريق مشغولاً بثورة أخيلا في الشمال ، ولما علم بنزول المسلمين في
أرض أسبانيا جمع جيشاً جراراً بلغ سبعين ألفاً ، وفي رواية : مائة ألف .
وجاءت امرأة عجوز من أهل الجزيرة الخضراء إلى طارق ، وقالت له : إنه كان
لها زوج عالم بالحدثان [ أخبار الزمان ] ، فكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم
هذا فيتغلب عليه ، ويصف من نعته أنه ضخم الهامة ، فأنت كذلك ، ومنها أن في
كتفه الأيسر شامة عليها شعر فإن كانت فيك فأنت هو ، فكشف ثوبه فإذا
بالشامة في كتفه على ما ذكرت ، فاستبشر ومن معه .
وسار طارق باتجاه قرطبة حتى وصل لوادي بكة حرّف فيما بعد إلى وادي لكة ،
وهنا عرف طارق بأن لذريق وصل لقرطبة ، ثم تقدم واستعد للموقعة في سهل
البرباط ، وأرسل طارق يطلب المدد من موسى بن نصير ، فعجل موسى بإرسال خمسة
آلاف من خيرة الجنود يقودهم طريف ، وفيهم عدد عظيم من العرب ، فأدركوا
طارقاً قبيل المعركة ، فأصبح عددهم اثني عشر ألفاً ، وقام طارق في أصحابه
خطيباً فشجعهم على الجهاد ، واستعد لذريق للقاء ، وقد ولى ولدي غيطشة على
ميمنته وميسرته .
وقبيل الالتحام أجمع أولاد غيطشة على الغدر بلذريق ، وأرسلوا إلى طارق
يعلمونه أن لذريق كان تابعاً وخادماً لأبيهم ، فغلبهم على سلطانه بعد
مهلكه ، ويسألونه الأمان ، على أن يميلوا إليه عند اللقاء فيمن يتبعهم ،
وأن يسلم إليهم إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلها ، فأجابهم طارق إلى ذلك
وعاقدهم عليه ، وأرسل لذريق رجلاً من أصحابه ليعاين له جيش المسلمين ،
فلما عاد قال له : خذ على نفسك ، فقد جاءك منهم من لا يريد إلا الموت ، أو
إصابة ماتحت قدميك .
وقدم طارق نفراً من السودان بين يدي جيشه ليتلقوا بما عرف عنهم من الصبر
والثبات صدمة الجيش الأولى ، وبدأ القتال يوم الأحد الثامن والعشرين من
رمضان سنة 92هـ ، فأظهر فرسان القوط مقدرة عظيمة أول المعركة ، وثبتوا
لضغط المسلمين ، وأخذ يليان ورجاله يخذلون الناس عن لذريق ويصرفونهم عنه ،
قائلين لهم : إن العرب جاؤوا للقضاء على لذريق فقط ، وإنهم إن خذلوا لذريق
اليوم صفت لكم الأندلس بعد ذلك .
وأثر هذا الكلام في جنود القوط فقد كان كثير منهم يكرهون لذريق ، فخرج
فرسانه من المعركة وتركوه لمصيره ، فاضطرب نظام جيشه وفر الكثير منهم ،
وخارت قوى لذريق ولم تغنه شجاعته شيئاً ، ويئس من النصر لما رأى جنده
يفرون أو ينضمون للمسلمين . وهجم طارق على لذريق فضربه بسيفه فقتله ، وقيل
: إنه جرحه ورمى بنفسه في وادي لكة فغرق ، وحمل النهر جثته إلى المحيط .
وبعد مصرعه احتل المسلمون المعسكر وغنموه ، واتجه طارق لفتح المدن
الرئيسية في الأندلس ففتح شذونة ومدوّرة وقرمونة وإشبيلية واستجة ، وكانت
فيها قوة تجمعت من فلول عسكر لذريق فقاتلوا قتالاً شديداً حتى أظهر الله
المسلمين عليهم ، ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك حرباً مثلها ، وأقاموا
على الامتناع أولاً إلى أن ظفر طارق بأمير المدينة على النهر وحده ، فوثب
عليه طارق في الماء فأخذه وجاء به إلى المعسكر ، ثم صالحه طارق وخلى سبيله
، واستمر طارق في زحفه ، وانتهى إلى عاصمة الأندلس طليطلة وتمكن من فتحها .
وجاءته الرسائل من موسى تأمره بالتوقف ، وعبر موسى إلى الأندلس بناء على
استغاثة وجهها إليه طارق ، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ، بجيش عدده
ثمانية عشر ألفاً ، ففتح بعض المدن كشذونة وقرمونة وإشبيلية وماردة ، وهي
مدن لم يفتحها طارق ، ثم التقى بطارق ووبخه على أنهم توغلوا أكثر مما
ينبغي ، وأن خطوط مواصلاتهم في الأندلس الواسعة في خطر ، فقد بقيت مناطق
واسعة في شرق الأندلس وغربها لم تفتح .
وأخيراً لقد قررت معركة وادي لكة مصير الأندلس لمدة ثمانية قرون ، وظل الأثر العربي الإسلامي في أسبانيا ليوم الناس هذا .